بسم الله الرحمن الرحيم
الفرقان بين أهل البدع والأهواء وبين حزب الرحمن في أجزاء الإيمان والتلازم بينها
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
اعلم علمني الله وإياك علمًا نافعًا , بأن أصل الخلاف في باب الاسماء والأحكام يعود إلى الخلاف حول ماهية الإيمان وهل هو وحدة واحدة أو شعب وأبعاض وهل بينهما تلازم وما صفته ؟
فأهل البدع والأهواء اجتمعوا على أن الإيمان جزء لا يتجزء وهو وحدة واحدة , فإما أن يوجد كله أو يذهب كله .
ثم انقسم أهل البدع إلى قسمين متقابلين :
- فقالت الخوارج والمعتزلة : الإيمان وحدة واحدة إلا أنها تتكون من إيمان باطن ( قول القلب وعمله ) وإيمان ظاهر ( قول اللسان وعمل الجوارح ) , وبينهم تلازمًا , فمتى وجد الباطن وجد الظاهر , ومتى فقد الظاهر فقد الباطن وهذا حال كل وحدة واحدة لا تتجزء .
لذلك قالوا : إن المؤمن هو من التزم الطاعة وتلازم باطنه مع ظاهره كوحدة واحدة , تستلزم الوجود حال الوجود والعدم حال العدم , وبهذا يكفرون أصحاب الكبائر .
- وأما المرجئة فقالت : وإن كان الإيمان وحدة واحدة , يذهب بذهابها , إلا أن له ثمرات على الظاهر , ولا تلازم بين الظاهر والباطن , فلا يجوز أن ينقص الإيمان وقد أصبح كاملًا بعد اكتمال التشريع , فلو أدخلنا العمل في الإيمان لزمنا قول الخوارج والمعتزلة فردوا البدعة ببدعة مقابلة لها , فجعلوا الظاهر مجرد ثمرة للباطن لا تؤثر عليه وجودًا وعدمًا , وكمالًا ونقصًا .
فمنزلة الظاهر من الباطن عندهم , منزلة السبب من المسبب , فالعمل عندهم ثمرة لما في القلب , فقد يكون السبب تامًا فيثمر , وقد يكون السبب غير تام فلا يثمر , لذلك عند المرجئة قد يوجد الظاهر لوجود الباطن , وقد لا يوجد الظاهر ألبتة مع وجود الباطن .
فالمرجئة كافة إنما أتوا من جهة ظنهم انتفاء التلازم بين الباطن والظاهر فوقعوا في الضلال كل طائفة بحسبها .
فإن قال قائل : فمن المرجئة من يجعل قول اللسان من الإيمان وهو النطق بالشهادتين , فكيف يكون وحدة واحدة ؟
قلت : بل هم متفقون على كون الإيمان وحدة واحدة , ولكن بعض طوائف المرجئة وهم مرجئة الفقهاء , يجعلون النطق بالشهادتين شرط لصحة الإيمان الظاهر , والشرط عندهم خارج عن المشروط , فالنطق بالشهادتين عندهم بمنزلة الطهارة من الصلاة , فليست من الصلاة وإن كانت شرط لصحتها , وبهذا سلم لهم أصلهم الفاسد , بأن الإيمان وحدة واحدة في القلب فتنبه .
- وخالفهم حزب الرحمن أهل الحق أصحاب الحديث أهل السنة والجماعة أتباع السلف .
فقالوا : بل هو أي الإيمان شعب وأبعاض تتجزء وتتوزع على الباطن والظاهر , وبينهما تلازم تام في القوة والضعف والعدم , ولذلك يزيد الإيمان وينقص وبحسب الطاعات وضدها , والتلازم تام بين أجزاء الإيمان الثلاثة , وكل جزء متعلق بما قبله , فعمل الجوارح وقول اللسان لازم لعمل القلب , وعمل القلب لازم لقول القلب وهكذا ينشأ الإيمان وهذا معنى قول من قال من أهل السنة أن أصل الإيمان في القلب , ولكنهم يعطفون على ذلك القول بذكر التلازم , حتى لا يتوهم واهم بأن الأصل كاف في صحة الإيمان .
يقول شيخ الإسلام (مجموع الفتاوى 7/202 ) : " فَإِنَّ أَصْلَ الْإِيمَانِ هُوَ مَا فِي الْقَلْبِ وَلَكِنْ هِيَ - أي أعمال الجوارح - لَازِمَةٌ لَهُ فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْهَا كَانَ إيمَانُهُ مُنْتَفِيًا ؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ اللَّازِمِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ الْمَلْزُومِ " . انتهى
ويقول رحمه الله (7/198) : " أَصْلَ الْإِيمَانِ هُوَ مَا فِي الْقَلْبِ . وَالْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ لَازِمَةٌ لِذَلِكَ . لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ إيمَانِ الْقَلْبِ الْوَاجِبِ مَعَ عَدَمِ جَمِيعِ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ بَلْ مَتَى نَقَصَتْ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ كَانَ لِنَقْصِ الْإِيمَانِ الَّذِي فِي الْقَلْبِ ؛ فَصَارَ الْإِيمَانُ مُتَنَاوِلًا لِلْمَلْزُومِ وَاللَّازِمِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ مَا فِي الْقَلْبِ ؛ وَحَيْثُ عُطِفَتْ عَلَيْهِ الْأَعْمَالُ فَإِنَّهُ أُرِيدَ أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِإِيمَانِ الْقَلْبِ بَلْ لَا بُدَّ مَعَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ " . انتهى
ففرقان ما بين الهدى والضلال والحق والباطل والسنة والبدعة في مسألة الإيمان فرقان وهما :
- الفرق الأول : أن أهل السنة يثبتون ثلاث حالات للإيمان وهي القوة والضعف والعدم لأنه شعب وأبعاض تتجزء , فيجوز أن يذهب بعضه ويبقى بعضه لدلالة النصوص الشرعية على ذلك .
وأما طوائف المبتدعة كلها فيجعلون للإيمان حالتين وهي القوة أو العدم .
وهذا بناء على أصلهم وأن الإيمان وحدة واحدة لا تتجزأ كمسمى العشرة والسكنجبين , فإما أن يبقى كاملًا وإما أن يزول جملة .
قال شيخ الإسلام (مجموع الفتاوى 7/510) : " وَأَصْلِ نِزَاعِ هَذِهِ الْفِرَقِ فِي الْإِيمَانِ مِنْ الْخَوَارِجِ وَالْمُرْجِئَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْإِيمَانَ شَيْئًا وَاحِدًا إذَا زَالَ بَعْضُهُ زَالَ جَمِيعُهُ وَإِذَا ثَبَتَ بَعْضُهُ ثَبَتَ جَمِيعُهُ فَلَمْ يَقُولُوا بِذَهَابِ بَعْضِهِ وَبَقَاءِ بَعْضِهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ الْإِيمَانِ } " . انتهى
وقال
- الفرق الثاني : أن أهل السنة يثبتون تلازمًا تامًا بين حالات الإيمان الثلاثة
ويجعلونها مترابطة .
وأما أهل البدع فمنهم من أثبت التلازم ولوى عنقه ليوافق أصله بأن الإيمان وحدة واحدة , فاقتصر على حالتين وهما القوة والعدم وهم الخوارج والمعتزلة .
وأما المرجئة فنفوا التلازم جملة , واقتصروا على ما في القلب وأناطوا به الاسم والحكم , إلا مرجئة الفقهاء فاقتربوا من أهل السنة بإثبات العذاب للمفرطين في الأمر والنهي وإن أثبتوا له الاسم كاملًا .
قال ابن القيم (الفوائد ص85) : " الإيمان له ظاهر وباطن , وظاهره قول اللسان وعمل الجوارح , وباطنه تصديق القلب وانقياده ومحبته .
فلا ينفع ظاهر لا باطن له وإن حُقن به الدماء وعُصم به المال والذرية , ولا يجزىء باطن لا ظاهر له إلا إذا تعذر بعجز أو إكراه وخوف هلاك .
فتخلف العمل ظاهرًا مع عدم المانع , دليل علي فساد الباطن وخلوه من الايمان , ونقصه دليل نقصه , وقوته دليل قوته " . انتهى
وقال رحمه الله (الفوائد ص142) : " والله تعالى أمر عباده أن يقوموا بشرائع الإسلام على ظواهرهم , وحقائق الإيمان على بواطنهم , ولا يقبل واحدًا منهما إلا بصاحبه وقرينه وفي المسند مرفوعًا " الإسلام علانية والإيمان في القلب " . فكل إسلام ظاهر لا ينفذ صاحبه منه إلى حقيقة الإيمان الباطنة فليس بنافع , حتى يكون معه شيء من الإيمان الباطن , وكل حقيقة باطنة لا يقوم صاحبها بشرائع الإسلام الظاهرة لا تنفع , ولو كانت ما كانت , فلو تمزق القلب بالمحبة والخوف ولم يتعبد بالأمر وظاهر الشرع لم ينجه ذلك من النار , كما أنه لو قام بظواهر الإسلام وليس في باطنه حقيقة الإيمان لم ينجه من النار .
فهدى الله جل وعز أهل السنة إلى أن الإيمان شعب وأبعاض متلازمة في الباطن والظاهر قوةً وضعفًا وعدمًا .
فمنها ما يزول بزواله الإيمان كله , ومنها ما يزول بزوالها كمال الإيمان الواجب فيكون ذو إيمان ناقص , وإذا كملت الشعب والأبعاض قوي الإيمان عند العبد وكمل . والله تعالى أعلم وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين .